حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد استفاضت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وذلك بالصلاة عندها، أو ببناء مسجد عليها، وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بخمس (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهائكم عن ذلك)
فدلت الأحاديث على تحريم اتخاذ القبور مساجد، سواء بالصلاة عندها، أو ببناء مسجد عليها، وقد شاع عند كثير من جهلة المسلمين الغلو في قبور الصالحين، أو من يظنون فيهم الصلاح، وأوجب لهم ذلك الوقوعَ في أنواع من الشرك الأكبر والأصغر، فبنوا على تلك القبور المساجد والقباب، فانتشرت في كثير من بلاد المسلمين المساجد التي فيها قبور
وهي نوعان:
النوع الأول: مساجد أسست ابتداء، تعظيمًا لصاحب القبر، ليُزار، ويصلى عنده، ويطاف به.
النوع الثاني: مساجد أسست لإقامة الصلوات الخمس، وإقامة الجمع والجماعات فيها، فاعتدى بعض الناس فدفن فيها معظَّمًا صالحًا أو غير صالح، وغلب هذا الواقع حتى صار كثيرٌ من المسلمين يجدون حرجًا؛ لأنهم لا يجدون مسجدًا خاليًا عن تلك القبور، فهم بين أمرين: إما أن يتركوا حضور الجمعة والجماعة التي تقام في تلك المساجد، وإما أن يحضروا متأولين العذر لهم في ذلك
لهذا يجب أن يعلم الفرق بين النوع الأول والثاني؛ فالمساجد المؤسسة على الشرك هي من جنس مسجد الضرار، فيجب هدمها، ولا تصح الصلاة فيها ولو أدى ذلك إلى ترك الجماعة.
وأما النوع الثاني؛ فهي مساجد محترمة، وحرمتها كحرمة غيرها من مساجد المسلمين، لا يُبطل حرمتها اعتداء من اعتدى بالدفن فيها، وعليه؛ فلا حرج على من صلى فيها، حتى ولو كان القبر في جهة القبلة، والغالب أن يكون دونه جدار، فلا يستقبل مباشرة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا إلى القبور) فذلك في حال الاختيار
بل لا يجوز ترك الجمعة والجماعة من أجل ما يوجد في تلك المساجد من قبور طارئة عليها، وبهذا يتبين أن المعتبر في حكم الصلاة في المساجد التي توجد فيها القبور ما أسست عليه، فما أسس على الشرك والبدعة فلا تجوز الصلاة فيه؛ لأنه لم يؤسس على تقوى، وما أُسس لإقامة شرائع الله فهو المؤسس على التقوى، فيكون من بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيه اسمه
وإذا اشتبه الأمر على المسلم في مسجد من تلك المساجد، فيبني على غالب ظنه، ويستدل على الواقع بالقرائن، وبسؤال أهل الخبرة من أهل السنة في تلك البلد، وأعظم دليل على أن المسجد المؤسس على تقوى من الله ورضوان لا يَمنع من الصلاة فيه , ما أُحدث فيه من منكر من شرك وما دونه؛ أقول أدلُّ دليل على ذلك ما عُلم من سيرته صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وبعدها من صلاته في المسجد الحرام، وطوافه بالبيت، مع ما كان في المسجد من الأصنام، ومن ذلك صلاته وطوافه في عمرة القضاء، مدة إقامته بمكة، ثمَّ ترحَّلَ عنها، وتركها كذلك، حتَّى كان عامُ الفتح، وتمكَّنَ من إزالةِ ذلك
وهاهنا تنبيهٌ جيِّدٌ قويٌّ:
والمقصودُ أنَّ كلَّ معبدٍ وُضعَ أوَّلاً علَى التَّوحيدِ فالصَّلاةُ فيهِ مشروعةٌ، ولا يضرُّ ما كان فيهِ من الأشياءِ المكروهة المنهيِّ عنها؛ لأنَّ المؤمنَ لا يلتفت إليها، وإنَّما قصدُهُ الصَّلاةُ في هذه البقعةِ المشروع الصَّلاة فيها بالأصل.
فأما ما وُضعَ أوَّلاً علَى الشِّرك فهذه لا يُصلَّى فيها، ولا يُقامُ فيها، كما قالَ تعالَى (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)
وبهذا يعلم أنه لا أثر لإدخال حجرة عائشة رضي الله عنها في المسجد، وفي الحجرة قبره صلى الله عليه وسلم، لا أثر لذلك على فضيلة مسجده صلى الله عليه وسلم، ففضله بعد إدخال الحجرة فيه كفضله في حياته صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته
فهذا لا أثر له في حكم الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مؤسَّس على التقوى، فلا يضره ما أحدث فيه، والله أعلم
^^^^^^^^^^^
فضيلة الشيخ العلامة ناصر البراك