حادثة الإفك

بسم الله الرحمن الرحيم
  إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) النور
   
عشر آيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت، والفرية التي غار اللّه عزَّ وجلَّ لها ولنبيه صلوات اللّه وسلامه عليه، فأنزل اللّه تعالى براءتها صيانة لعرض الرسول صلى اللّه عليه وسلم 

 فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين جاءوا بالأفك عصبة منكم‏}‏ أي جماعة منكم يعني ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة؛ فكان المقدم في هذه اللعنة عبد اللّه بن أبي بن سلول رأس المنافقين، فإنه كان يجمعه ويستوشيه حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين، فتكلموا به، وجوزه آخرون منهم، وبقي الأمر كذلك قريباً من شهر حتى نزل القرآن؛ وبيان ذلك في الأحاديث الصحيحة‏

عن عائشة رضي اللّه عنها زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت‏:‏ 
كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معه، قالت عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، وخرجت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وذلك بعدما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه 

 فسرنا حتى إذا فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوته وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه 

 وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه، قالت‏:‏ وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام؛ فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا 

 ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت 

 وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رأني، وقد كان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي واللّه ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد اللّه بن أبي بن سلول 
     
فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمناها شهراً والناس يفيضون في قول الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللطف الذي أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيسلم ثم يقول‏:‏ ‏(‏كيف تيكم‏؟‏‏)‏ فذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر

حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت معي أم مسطح قِبَل المناصع وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل؛ وذلك قبل أن نتخذ الكنف القريب من بيوتنا،  فانطلقت أنا وأم مسطح ، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت‏:‏ تعس مسطح، فقلت لها‏:‏ بئسما قلت، تسبين رجلاً شهد بدراً‏؟‏ 

فقالت‏:‏ أي هنتاه ألم تسمعي ما قال‏؟‏ قلت‏:‏ وماذا قال‏؟‏  فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسلم، ثم قال‏:‏ ‏(‏كيف تيكم‏؟‏‏)‏ فقلت له‏:‏ أتأذن لي أن آتي أبوي، وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول اللّه فجئت أبوي 

 فقلت لأمي‏:‏ يا أمتاه لماذا يتحدث الناس به‏؟‏ فقالت أي بنية هوني عليك فواللّه لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقلت‏:‏ سبحان اللّه وقد تحدث الناس بها‏؟‏ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي‏ 
 وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي 

 فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي , فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسلم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني شيء‏
‏    
 فتشهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين جلس، ثم قال‏:‏ ‏(‏أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك اللّه، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري اللّه وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب اللّه عليه‏)‏ 

‏ فلما قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي‏:‏ أجب عني رسول اللّه، فقال‏:‏ واللّه ما أدري ما أقول لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقلت لأمي‏:‏ أجيبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالت‏:‏ واللّه ما أدري ما أقول لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم 

 فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن‏:‏ واللّه لقد علمت، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة - واللّه يعلم أني بريئة - لا تصدقونني، ولئن اعترفت بأمر واللّه يعلم أني منه بريئة لتُصَدِّقُني، فواللّه ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف‏:‏ ‏{‏فصبر جميل واللّه المستعان على ما تصفون‏}‏

‏ ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا اللّه أعلم حينئذ أني بريئة، وأن اللّه تعالى مبرئي ببراءتي، ولكن ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحيٌ يتلى، ولَشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم اللّه فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو من أن يرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني اللّه بها 

 فواللّه ما رام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل اللّه تعالى على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه ,فسري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال‏:‏ 
(‏أبشري يا عائشة، أما اللّه عزَّ وجلَّ فقد برأك‏)‏‏ 
    
 فقالت لي أمي‏:‏ قومي إليه، فقلت‏:‏ واللّه لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا اللّه عزَّ وجلَّ، هو الذي أنزل براءتي، وأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم‏}‏ العشر الآيات كلها 
 ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الزهري عن عائشة رضي اللّه عنها‏"‏‏ 
 
******************
مختصر من :مختصر تفسير ابن كثير للشيخ الصابوني رحمه الله

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معنى (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة )

وجود القميص ثلاث مرات في قصة يوسف

تليين القلب الحجر