الاعتكاف
الحمدُ لله المتفردِ بالجلالِ والبقاء، والعظمةِ والكبرياء، الغنيِّ بذاتِه عن جميعِ مخلوقاته
لَقَدْ نَزَل بكم عشرُ رمضانَ الأخيرةُ، فيها الخيراتُ والأجورُ الكثيرة، فيها الفضائلُ المشهورةُ والخصائصُ المذكورةُ
ومن خصائص هذه العشر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يعْتَكِفُ فيهَا، والاعتكافُ: لُزُومُ المسجِد للتَّفَرُّغِ لطاعةِ الله عزَّ وجلَّ وهو من السنن الثابتة بكتاب الله وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلّم، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة: 187
والمقصود بالاعتكاف: انقطاعُ الإِنسانِ عن الناسِ لِيَتَفَرَّغَ لطاعةِ الله في مسجدٍ من مساجِده طلباً لفضْلِهِ وثوابِهِ وإدراكِ ليلة القَدْرِ، ولذلك ينْبغِي للمعتكفِ أنْ يشتغلَ بالذكرِ والقراءةِ والصلاةِ والعبادةِ، وأن يتَجنَّب ما لا يَعْنِيه من حديثِ الدنيَا ولا بأسَ أنْ يتحدثَ قليلاً بحديثٍ مباحٍ مع أهْلِه أو غيرهم لمصلحةٍ
ويحرُمُ على المعتكفِ الجِماعُ ومُقَدَّمَاتُه من التقبيلِ واللَّمسِ لشهوةٍ لقولِه تعالى: {وَلاَ تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ } وأمَّا خُروجُه من المسجدِ فإنْ كان بِبَعْض بدنِه فلا بأسَ به لحديث عائشة رضي الله عنها قالتْ: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يُخرجُ رأسَه مِنَ المسجِدِ وهو معتكفٌ فأغسله وأنا حائض»، رواه البخاري
وإن كان خروجه بجميع بدنه فهو ثلاثة أقسام:
الأوَّلُ: الخروجُ لأمرٍ لا بُدَّ منه طبعاً أوْ شرعاً كقضاءِ حاجةِ البولِ والغائِط والوضوءِ الواجبِ والغُسْلِ الواجِب لجنابَةٍ أوْ غيرها والأكلِ والشربِ فهذا جائزٌ إذا لم يُمْكنْ فعْلُهُ في المسجدِ فإنْ أمكنَ فِعُلُه في المسجدِ فلاَ. مثلُ أنْ يكونَ في المسجدِ حَمَّامٌ يمكنُه أنْ يقضيَ حاجتَه فيه وأن يغتسلَ فيه، أوْ يَكونَ له من يأتِيْهِ بالأكِل والشربِ فلا يخرجُ حينئذٍ لعدمِ الحاجة إليه
الثاني: الخروج لأمْر طاعةِ لا تجبُ عليهِ كعيادةِ مريضٍ وشهودِ جنازةٍ ونحو ذلك فلا يفعله إلاَّ أنْ يشترطَ ذلك في ابتداءِ اعتكافِه مثل أن يكون عنده مريض يحب أن يعودَه أو يخشى من موته فيشترط في ابتداء اعتكافه خروجَه لِذَلِكَ فلا بأْسَ به
الثالث: الخروجُ لأمْرٍ ينافي الاعتكافَ كالخروج للبيعِ والشراءِ وجماعِ أهْلِهِ ومباشرتِهم ونحو ذلك، فلا يفعله لا بشرطٍ ولا بغيرِ شرطٍ، لأنه يناقضُ الاعتكافَ وينافي المقصودَ منه
ومن خصائِص هذه العشر أنَّ فيها ليلةَ الْقَدْرِ التي هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ فاعْرفوا رحمكم الله لهذه العشر فَضْلَها ولا تضيِّعُوها، فوَقْتُها ثمينٌ وخيرُها ظاهِرٌ مبينٌ
اللَّهُمَّ وفقْنَا لِمَا فيهِ صلاحُ دينِنا ودنيانَا، وأحْسِنْ عاقَبَتَنا وأكْرِمْ مثَوانا، واغفر لنَا ولوالِدِينَا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ وصَلَّى الله وسلّم على نبيِّنا محمدٍّ وآلِهِ وصحبِه أجمعين
*************
سماحة الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى
من مجالس شهر رمضان
المجلس الحادي والعشرون - في فضْل العشر الأخيرة من رمَضانُ
من مجالس شهر رمضان
المجلس الحادي والعشرون - في فضْل العشر الأخيرة من رمَضانُ