قصة صاحب الجنتين (32-43 الكهف )
الحمد لله
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: اضرب للناس مثل هذين الرجلين، الشاكر لنعمة الله، والكافر لها، وما صدر من كل منهما، من الأقوال والأفعال، وما حصل بسبب ذلك من العقاب العاجل والآجل، والثواب، ليعتبروا بحالهما، ويتعظوا بما حصل عليهما
فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة الله الجليلة، جعل الله له جنتين، أي: بستانين حسنين، من أعناب ( وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ ) أي: في هاتين الجنتين من كل الثمرات، وخصوصا أشرف الأشجار، العنب والنخل
وأخبرتعالى أن كلا من الجنتين آتت أكلها، أي: ثمرها وزرعها ضعفين، أي: متضاعفا ( و ) أنها ( لم تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ) أي: لم تنقص من أكلها أدنى شيء ومع ذلك، فالأنهار في جوانبهما سارحة، كثيرة غزيرة
( وَكَانَ لَهُ ) أي: لذلك الرجل ( ثَمَرٌ ) أي: عظيم كما يفيده التنكير، أي: قد استكملت جنتاه ثمارهما، وارجحنت أشجارهما، ولم تعرض لهما آفة أو نقص، فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحرث
ولهذا اغتر هذا الرجل بهما، وتبجح وافتخر، ونسي آخرته( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً )أي: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن، مفتخرا عليه ( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا )
فخر بكثرة ماله، وهذا جهل منه، وإلا فأي: افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية، ولا صفة معنوية، ثم لم يكفه هذا الافتخار على صاحبه، حتى حكم، بجهله وظلمه، وظن لما دخل جنته فـ ( قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ ) أي: تنقطع وتضمحل ( هَذِهِ أَبَدًا ) فاطمأن إلى هذه الدنيا، ورضى بها، وأنكر البعث، فقال ( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي ) على ضرب المثل ( لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ) أي ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين
وهذا لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عالما بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس، وأبخسهم حظا من العقل
فأي: تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة، بل الغالب، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيب
والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال، ولكنه قال هذا الكلام، على وجه التهكم والاستهزاء، بدليل قوله: ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) فإثبات أن وصفه الظلم، في حال دخوله، الذي جرى منه، من القول ما جرى، يدل على تمرده وعناده
أي: قال له صاحبه المؤمن، ناصحا له، ومذكرا له حاله الأولى، التي أوجده الله فيها في الدنيا ( مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا ) فهو الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد والإمداد، وواصل عليك النعم، ونقلك من طور إلى طور، حتى سواك رجلا كامل الأعضاء والجوارح المحسوسة، والمعقولة
وبذلك يسر لك الأسباب، وهيأ لك ما هيأ من نعم الدنيا، فلم تحصل لك الدنيا بحولك وقوتك، بل بفضل الله تعالى عليك، فكيف يليق بك أن تكفر بالله الذي خلقك من تراب، ثم من نطفة ثم سواك رجلا وتجحد نعمته، وتزعم أنه لا يبعثك، وإن بعثك أنه يعطيك خيرا من جنتك؟! هذا مما لا ينبغي ولا يليق
ولهذا لما رأى صاحبه المؤمن حاله واستمراره على كفره وطغيانه، قال مخبرا عن نفسه، على وجه الشكر لربه، والإعلان بدينه، عند ورود المجادلات والشبه ( لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ) فأقر بربوبيته لربه، وانفراده فيها، والتزم طاعته وعبادته، وأنه لا يشرك به أحدا من المخلوقين
ثم أخبره أن نعمة الله عليه بالإيمان والإسلام، ولو مع قلة ماله وولد، أنها هي النعمة الحقيقية، وأن ما عداها معرض للزوال والعقوبة عليه والنكال، فقال:
أنت -وإن فخرت علي بكثرة مالك وولدك، ورأيتني أقل منك مالا وولدا -فإن ما عند الله، خير وأبقى، وما يرجى من خيره وإحسانه، أفضل من جميع الدنيا، التي يتنافس فيها المتنافسون
( فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا ) أي: على جنتك التي طغيت بها وغرتك ( حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ) أي: عذابا، بمطر عظيم أو غيره، ( فَتُصْبِحَ ) بسبب ذلك ( صَعِيدًا زَلَقًا ) أي: قد اقتلعت أشجارها، وتلفت ثمارها، وغرق زرعها، وزال نفعها
( أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا ) الذي مادتها منه ( غَوْرًا ) أي: غائرا في الأرض ( فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ) أي: غائرا لا يستطاع الوصول إليه بالمعاول ولا بغيرها، وإنما دعا على جنته المؤمن، غضبا لربه، لكونها غرته وأطغته، واطمأن إليها، لعله ينيب، ويراجع رشده، ويبصر في أمره
فاستجاب الله دعاءه ( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) أي: أصابه عذاب، أحاط به، واستهلكه، فلم يبق منه شيء، والإحاطة بالثمر يستلزم تلف جميع أشجاره، وثماره، وزرعه، فندم كل الندامة، واشتد لذلك أسفه، ( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا ) أي على كثرة نفقاته الدنيوية عليها، حيث اضمحلت وتلاشت، فلم يبق لها عوض، وندم أيضا على شركه، وشره، ولهذا قال ( وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا )
قال الله تعالى: ( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ) أي: لما نزل العذاب بجنته، ذهب عنه ما كان يفتخر به من قوله لصاحبه( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ) فلم يدفعوا عنه من العذاب شيئا، أشد ما كان إليهم حاجة، وما كان بنفس منتصرا وكيف ينتصر، أي: يكون له أنصارا على قضاء الله وقدره الذي إذا أمضاه وقدره، لو اجتمع أهل السماء والأرض على إزالة شيء منه، لم يقدروا
ولا يستبعد من رحمة الله ولطفه، أن صاحب هذه الجنة، التي أحيط بها، تحسنت حاله، ورزقه الله الإنابة إليه، وراجع رشده، وذهب تمرده وطغيانه، بدليل أنه أظهر الندم على شركه بربه، وأن الله أذهب عنه ما يطغيه، وعاقبه في الدنيا، وإذا أراد الله بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا وفضل الله لا تحيط به الأوهام والعقول، ولا ينكره إلا ظالم جهول
********************
مختصر من تفسير: سماحة الشيخ العلامة السعدي رحمه الله
http://www.al-eman.com/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A8/تفسير%20السعدي%20المسمى%20بـ%20«تيسير%20الكريم%20الرحمن%20في%20تفسير%20كلام%20المنان»%20**/سورة%20الكهف/i167&d1611&p1
http://www.al-eman.com/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A8/تفسير%20السعدي%20المسمى%20بـ%20«تيسير%20الكريم%20الرحمن%20في%20تفسير%20كلام%20المنان»%20**/سورة%20الكهف/i167&d1611&p1