تفسير قصة موسى عليه السلام مع الخضر

بسم الله الرحمن الرحيم 

تفسير الآية60 الى الآية 82 من سورة الكهف
 
يخبر تعالى عن نبيه موسى عليه السلام، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم، أنه قال لفتاه - أي: خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره، وهو " يوشع بن نون " الذي نبأه الله بعد ذلك, ( لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) 

 أي: لا أزال مسافرا وإن طالت علي الشقة، ولحقتني المشقة، حتى أصل إلى مجمع البحرين، وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد الله العالمين، عنده من العلم، ما ليس عندك 

 ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) أي: مسافة طويلة، المعنى: أن الشوق والرغبة، حمل موسى أن قال لفتاه هذه المقالة، وهذا عزم منه جازم، فلذلك أمضاه

( فَلَمَّا بَلَغَا ) أي: هو وفتاه ( مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ) وكان معهما حوت يتزودان منه ويأكلان، وقد وعد أنه متى فقد الحوت فثم ذلك العبد الذي قصدته، فاتخذ ذلك الحوت سبيله، أي: طريقه في البحر سربا وهذا من الآيات

قال المفسرون إن ذلك الحوت الذي كانا يتزودان منه، لما وصلا إلى ذلك المكان، أصابه بلل البحر، فانسرب بإذن الله في البحر، وصار مع حيواناته حيا

فلما جاوز موسى وفتاه مجمع البحرين، قال موسى لفتاه ( آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ) أي: لقد تعبنا من هذا السفر المجاوز فقط، وإلا فالسفر الطويل الذي وصلا به إلى مجمع البحرين لم يجدا مس التعب فيه 

 وهذا من الآيات والعلامات الدالة لموسى، على وجود مطلبه، وأيضا فإن الشوق المتعلق بالوصول إلى ذلك المكان، سهل لهما الطريق 

 فلما تجاوزا غايتهما وجدا مس التعب، فلما قال موسى لفتاه هذه المقالة، قال له فتاه ( أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ )
أي: ألم تعلم حين آوانا الليل إلى تلك الصخرة المعروفة بينهما ( فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان ) لأنه السبب في ذلك ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) أي: لما انسرب في البحر ودخل فيه، كان ذلك من العجائب 

قال المفسرون: كان ذلك المسلك للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا، فلما قال له الفتى هذا القول، وكان عند موسى وعد من الله أنه إذا فقد الحوت، وجد الخضر 

 فقال موسى ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ) أي: نطلب ( فَارْتَدَّا ) أي: رجعا ( عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) أي رجعا يقصان أثرهما إلى المكان الذي نسيا فيه الحوت فلما وصلا إليه، وجدا عبدا من عبادنا، وهو الخضر، وكان عبدا صالحا، لا نبيا على الصحيح 

آتيناه رحمة من عندنا أي: أعطاه الله رحمة خاصة بها زاد علمه وحسن عمله ( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا ) أي: من عندنا عِلْمًا، وكان قد أعطي من العلم ما لم يعط موسى 

 وإن كان موسى عليه السلام أعلم منه بأكثر الأشياء، وخصوصا في العلوم الإيمانية، والأصولية، لأنه من أولي العزم من المرسلين، الذين فضلهم الله على سائر الخلق، بالعلم، والعمل، وغير ذلك

فلما اجتمع به موسى قال له على وجه الأدب والمشاورة، والإخبار عن مطلبه.
( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) أي: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله، ما به أسترشد وأهتدي، وأعرف به الحق في تلك القضايا؟ 

 وكان الخضر، قد أعطاه الله من الإلهام والكرامة، ما به يحصل له الاطلاع على بواطن كثير من الأشياء التي خفيت، حتى على موسى عليه السلام 

 فقال الخضر لموسى: لا أمتنع من ذلك، ولكنك ( لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) أي: لا تقدر على اتباعي وملازمتي، لأنك ترى ما لا تقدر على الصبر عليه من الأمور التي ظاهرها المنكر، وباطنها غير ذلك 
ولهذا قال ( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) أي: كيف تصبر على أمر،ما أحطت بباطنه وظاهره ولا علمت المقصود منه ومآله؟ 

فقال موسى ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) وهذا عزم منه، قبل أن يوجد الشيء الممتحن به، والعزم شيء، ووجود الصبر شيء آخر، فلذلك ما صبر موسى عليه السلام حين وقع الأمر

فحينئذ قال له الخضر ( فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) أي: لا تبتدئني بسؤال منك وإنكار، حتى أكون أنا الذي أخبرك بحاله، في الوقت الذي ينبغي إخبارك به، فنهاه عن سؤاله، ووعده أن يوقفه على حقيقة الأمر 

( فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ) أي: اقتلع الخضر منها لوحا، وكان له مقصود في ذلك، سيبينه، فلم يصبر موسى عليه السلام، لأن ظاهره أنه منكر، لأنه عيب للسفينة، وسبب لغرق أهلها 

 ولهذا قال موسى (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أي: عظيما شنيعا، وهذا من عدم صبره عليه السلام، فقال له الخضر (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي: فوقع كما أخبرتك، وكان هذا من موسى نسيانا 

 فقال ( لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ) أي: لا تعسر علي الأمر، واسمح لي، فإن ذلك وقع على وجه النسيان، فلا تؤاخذني في أول مرة. فجمع بين الإقرار به والعذر منه، وأنه ما ينبغي لك أيها الخضر الشدة على صاحبك، فسمح عنه الخضر 

 فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً , اي صغيرا فَقَتَلَهُ الخضر، فاشتد بموسى الغضب، وأخذته الحمية الدينية، حين قتل غلاما صغيرا لم يذنب. ( قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً) 

 وأي: نكر مثل قتل الصغير، الذي ليس عليه ذنب، ولم يقتل أحدًا؟! وكانت الأولى من موسى نسيانا، وهذه غير نسيان، ولكن عدم صبرفقال له الخضر معاتبا ومذكرا ( قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً) 

فقال له موسى ( إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ ) بعد هذه المرة ( بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ) أي: فأنت معذور بذلك، وبترك صحبتي  ( قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً) أي: أعذرت مني، ولم تقصر ( فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ) أي: استضافاهم، فلم يضيفوهما 

( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ ) أي: قد عاب واستهدم ( فَأَقَامَهُ )الخضر أي: بناه وأعاده جديدا. فقال له موسى ( لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ) 

 أي: أهل هذه القرية، لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم، وأنت تبنيه من دون أجرة، وأنت تقدر عليها؟. فحينئذ لم يف موسى عليه السلام بما قال، واستعذر الخضر منه، فقال له ( هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) فإنك شرطت ذلك على نفسك، فلم يبق الآن عذر، ولا موضع للصحبة، ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ) 

 أي: سأخبرك بما أنكرت عليَّ، وأنبئك بما لي في ذلك من المآرب، وما يئول إليه الأمر.( أَمَّا السَّفِينَةُ التي خرقتها فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ) يقتضي ذلك الرقة عليهم، والرأفة بهم ( فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) 

 أي: كان مرورهم على ذلك الملك الظالم، فكل سفينة صالحة تمر عليه ما فيها عيب غصبها وأخذها ظلما، فأردت أن أخرقها ليكون فيها عيب، فتسلم من ذلك الظالم

( وَأَمَّا الْغُلَامُ الذي قتلته فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ) 
 وكان ذلك الغلام قد قدر عليه أنه لو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا، أي: لحملهما على الطغيان والكفر، إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه أو يحدهما على ذلك، أي: فقتلته، لاطلاعي على ذلك، سلامة لدين أبويه المؤمنين، وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة الجليلة؟!! 

 وهو وإن كان فيه إساءة إليهما، وقطع لذريتهما، فإن الله تعالى سيعطيهما من الذرية، ما هو خير منه، ولهذا قال ( فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً ) أي: ولدا صالحا، زكيا، واصلا لرحمه، فإن الغلام الذي قتل لو بلغ لعقهما أشد العقوق بحملهما على الكفر والطغيان 

وَأَمَّا الْجِدَارُ الذي أقمته ( فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً )  أي: حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما، لكونهما صغيرين عدما أباهما، وحفظهما الله أيضا بصلاح والدهما 

( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ) أي: فلهذا هدمت الجدار، واستخرجت ما تحته من كنزهما، وأعدته مجانا ( رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ) أي: هذا الذي فعلته رحمة من الله، آتاها الله عبده الخضر ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) أي: أتيت شيئا من قبل نفسي، ومجرد إرادتي، وإنما ذلك من رحمة الله وأمره
( ذَلِكَ ) الذي فسرته لك ( تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) 
***************** 

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وجود القميص ثلاث مرات في قصة يوسف

معنى (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة )

تليين القلب الحجر